سورة الفتح - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الفتح)


        


{سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (15) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (17)}

التفسير:
قوله تعالى: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا}.
هو إخبار من اللّه سبحانه وتعالى، لما سيكون من هؤلاء المخلّفين، بعد أن يلتقوا بالنبي، وقد رجع من مسيرته منتصرا غانما، من حيث قدّروا الهزيمة، والهلاك.. إنهم سيعرضون على النبي أن يقبلهم في المجاهدين إذا هو سار مسيرة كتلك المسيرة، التي يكون منها الغنم والظفر.. وهذا ما يكشف عما في قلوبهم من إيمان زائف.. فهم إنما يكونون في المؤمنين المجاهدين، إذا كان من وراء هذا الإيمان والجهاد، سلامة ومغنم.. والإيمان- في حقيقته- هو بذل، وتضحية، غير منظور فيه إلى تحصيل كسب، أو ظفر بمغنم.
وقوله تعالى: {إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ}
بيان للغاية التي يتغيّاها هؤلاء المخلفون من الأعراب، من هذا العرض الذي يعرضونه على النبي بالسير معه إلى الجهاد، وأنهم إنما يسيرون حيث تكون هناك مغانم يملئون أيديهم منها.
وقوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ}.
كلام اللّه: هو حكمه وقضاؤه، وهو أن تكون المغانم من حظّ المجاهدين، لا أولئك الذين يتصيدون الفرص لتقع إلى أيديهم الغنائم من غير قتال.. وهؤلاء المخلفون لا يخرجون مع المجاهدين إلا إذا كان الخروج إلى مغانم من غير قتال، وهذا من شأنه- لو حدث ولن يحدث- أن يبدل حكم اللّه الذي جعل الغنائم المجاهدين.
وفى هذا النظم الذي جاء عليه الخبر، تيئيس للمخلفين أن يكون لهم في هذه المغانم نصيب، لأن أخذهم شيئا منها، فيه تبديل لكلمات اللّه، وإنه لا مبدّل لكلمات اللّه.
وقوله تعالى: {قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا} هو تعقيب على قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} وتصريح بالحكم الذي تضمنه، فإن من مضمون قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} أنهم لن يخرجوا مع المؤمنين، لأن في خروجهم تبديلا لكلمات اللّه، ولا مبدل لكلمات اللّه.
وقوله تعالى: {كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ}.
الإشارة هنا هى إلى الحكم الذي جاء في قوله تعالى: {لَنْ تَتَّبِعُونا}.
أي مثل هذا الحكم الذي قضينا به عليكم، وهو ألا تتبعونا، كان قضاء اللّه فيكم وحكمه عليكم من قبل هذا الحكم الصريح الذي واجهناكم به، أيها المخلفون، فقد قال اللّه من قبل فيكم: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} ومضمون هذا أنكم لن تخرجوا معنا.
هذا، وقد اضطربت آراء المفسرين في هذا، وكثرت مقولاتهم، ولم نر فيما رأينا من آراء ومقولات، ما نطمئن إليه.. فكان هذا رأينا الذي نرجو أن يكون صوابا.. واللّه أعلم.
قوله تعالى: {فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا} هو من مقولات المخلفين التي يمكن أن يقولوها، ردّا على قول النبي والمؤمنين لهم:
{لن تتبعونا} وهو ردّ أحمق جهول، فيه مغالطة فاضحة.. إذ كيف يحسدهم المؤمنون، وقد دعوا من قبل إلى الجهاد، فأبوا وتخلفوا؟
وكيف وطريق الجهاد مفتوح على مصراعيه للمجاهدين حقّا، الذين يريدون بجهادهم وجه اللّه، وإعلاء دين اللّه؟.
وقوله تعالى: {بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا} أي أن هؤلاء الأعراب المخلفين، إنما هم على عمى وجهل، ولو أنهم كانوا على شيء من العلم بدين اللّه، وبحقائق هذا الدين، لما وقفوا هذا الموقف من الجهاد، ثم لما كان منهم هذا الاعتراض في طريق المجاهدين بهذا المنطق الجهول.. أما مالهم من فقه قليل، فهو ما كان من أمر الدنيا وشئونها، ومع هذا فهو قشور من الفقه، لا يصل إلى شيء من لباب المعرفة، وهذا مثل قوله تعالى: {يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا، وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ} [7: الروم].
قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ، فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً}.
هذه دعوة إلى هؤلاء المخلفين، تقطع عليهم مقولتهم للمؤمنين: {بل تحسدوننا}.
وهم في هذه الدعوة مدعوون إلى قتال قوم أولى بأس شديد، وأنهم مطالبون كذلك في هذا القتال أن يقفوا موقف المجاهدين حقّا، وهو ألا يتحولوا عن القتال إلّا إذا استسلم لهم العدوّ، ودخل في دين اللّه.
وقد اختلف المفسّرون في هؤلاء القوم ذوى البأس الشديد، الذين سيدعى هؤلاء المخلفون إلى قتالهم، حين يندب المؤمنون إلى قتالهم.
ويذهب كثير من المفسرين، إلى أن هؤلاء القوم هم فارس، والروم.
وهذا غير صحيح من وجهين:
أولهما: أن قتال فارس والروم لا يكون فيه قتالهم إلى أن يدخلوا في الإسلام، بل إنه يكتفى منهم بقبول الجزية في حال هزيمتهم، وإبائهم أن يدخلوا في الإسلام، وإنما حكم القتل أو الإسلام هو في حقّ العرب وحدهم، لأنهم هم الذين تقوم عليهم الحجة كاملة، بتلك المعجزة التي في كتاب اللّه المعجز، الذي جاء بلسانهم.
والوجه الآخر، هو أن هؤلاء المخاطبين المخلفين، ينبغى أن تكون دعوتهم إلى قتال هؤلاء القوم بعد زمن قليل من وقت نزول هذه الآية.
حتى لا يذهب الموت بكثير منهم، إذ طال الزمن بهم، وقتال الفرس والروم جاء بعد نزول هذه الآيات، بنحو عشر سنين.
والذي يصحّ عندنا من هذه المقولات، هو القول بأن القوم ذوى البأس الشديد، هم بنو حنيفة، قوم مسيلمة الكذاب، الذين ارتدوا عن الإسلام، بعد وفاة النبي، صلوات اللّه وسلامه عليه، وكان ذلك بعد أربع سنين من نزول هذه الآية.
وبنو حنيفة، قد ارتدّوا عن الإسلام، بعد وفاة الرسول، فندب أبو بكر- رضى اللّه عنه- المسلمين إلى جهادهم، وقد حاربوا جيوش المسلمين حربا قاسية، حتى لقد استشهد من المسلمين أعداد كثيرة، كان من بينهم سبعون شهيدا من القرّاء وحدهم، كما يقول ذلك أصحاب المغازي.
وهذا كله حديث عن مستقبل لم يجىء بعد، وإنما هى أحداث ومواقف سوف تقع تباعا، ابتداء من نزول هذه الآيات.
قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً}.
رفع الحرج هنا عن هؤلاء الذين ذكرت الآية الكريمة صفاتهم، إنما هو في مقام الجهاد في سبيل اللّه.. فهؤلاء معفون من الجهاد، بحكم الأعذار التي معهم.. وقد رتّبوا ترتيبا تنازليا.. فالعمى عذر قاطع، لا شبهة فيه في الحرب، والعرج عذر غير ظاهر، قد يكون معه عجز عن القتال أو قدرة عليه، وأمر ذلك موكول إلى تقدير ولىّ الأمر، وإلى ضمير صاحب الآفة ودينه.
أما المرض، فهو عذر يغلب عليه الخلفاء، وأمره متروك تقديره للمريض نفسه، وإلى ما يمليه عليه دينه.


{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (18) وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (20) وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (21) وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (23) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (24) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (26)}.
التفسير:
قوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً}.
المؤمنون الذين رضى اللّه عنهم، وشملهم بهذا الرضوان العظيم، هم الذين كانوا مع النبىّ في الحديبية، والذين بايعوه على قتال المشركين، حين جاءت أخبار من مكة تقول: إن المشركين قد نالوا عثمان رضى اللّه عنه، بسوء، وقد كان الرسول- صلوات اللّه وسلامه عليه- بعثه إليهم، ليخبرهم بأن الرسول وأصحابه إنما جاءوا معتمرين زائرين للبيت الحرام، ولم يجيئوا لقتال.
وقوله تعالى: {وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} أي أن اللّه سبحانه وتعالى، مع هذا الرضوان الذي شمل به المؤمنين من أهل الحديبية- قد فتح عليهم خيبر وملأ أيديهم من مغانمها، وبهذا رجعوا ومعهم حظ الدنيا والآخرة جميعا.
ووصف الفتح بأنه قريب، وذلك لقرب زمانه، إذ كان على أيام من صلح الحديبية، ثم لقرب تناوله، إذ لم يلق المسلمون من أهل خيبر بلاء كثيرا، بل سرعان ما استسلم يهود خيبر ليد النبىّ، ونزلوا على حكمه.
قوله تعالى: {وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً}.
هو معطوف على قوله تعالى: {وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً}.
أي وأثابهم مغانم كثيرة يأخذونها، في قتالهم المشركين، والكافرين والمنافقين، ومنها غنائم هوازن في موقعة حنين، ثم تلك المغانم الكثيرة في حرب فارس والروم.
قوله تعالى: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً}.
هذا وعد من اللّه سبحانه وتعالى للمؤمنين وهم على طريق الجهاد، بأنه سبحانه، سيمكّن لهم من مغانم كثيرة يأخذونها، وأن هذا الذي أخذوه في خيبر ليس إلا ثمرة معجّلة من ثمار جهادهم، وإلا باكورة من بواكير هذا الثمر.
وقوله تعالى: {وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ}.
المراد بالناس هنا هم من واجههم النبىّ والمسلمون في مسيرته تلك، وهم أهل مكة، وأهل خيبر، فهؤلاء، وهؤلاء، لم يدخلوا مع المسلمين في حرب، بل عافاهم اللّه من هذا البلاء، وأعطاهم ثمرته، فسلّمت لهم قريش بحق دخولهم مكة، والطواف بالبيت الحرام، واستسلم لهم يهود خيبر، وسلّموا لهم ما بين أيديهم من أموال، وزروع.
وقوله تعالى: {وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} معطوف على محذوف، يفهم من قوله تعالى: {فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ} أي لتكون هذه الغنائم جزاء طيبا لكم، وليكون منها آية للمؤمنين، يرون فيها أن اللّه سبحانه وتعالى غنىّ عن الجهاد، وأنه سبحانه قادر على أن يفتح لهم البلاد ويخضع لهم العباد من غير قتال.. ولكنّ هذا يحرم المجاهدين فضل الجهاد، ولا يجعلهم في مكان هم أولى به من غيرهم، من رضوان اللّه، ومن الغنائم التي ينالها المجاهدون.
وقوله تعالى: {وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً} معطوف على قوله تعالى: {وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} أي وليكون لكم من هذه الآية، من هذه الآية، ما يملأ قلوبكم إيمانا باللّه، ويقينا بدينه، حيث ترون آثار لطف اللّه سبحانه، وشواهد قدرته.
قوله تعالى: {وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً}.
الأخرى: هى مكة.
وقوله تعالى: {لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها} صفة لمكة.
والمعنى، أنه إذا كان لكم في مغانم خيبر، وفى غلبكم عليها- إذا كان لكم في ذلك آية، فإن لكم في أهل مكة آية أخرى، إذ كان المشركون في صراع طويل معكم، وكانت الحرب بينكم وبينهم سجالا، وأنكم لم تقدروا أن تنالوا منهم الاستسلام لكم.. ثم هاأنتم هؤلاء ترون وقد جئتموهم لغير حرب، وفى عدد قليل، ومع هذا فقد ذلّوا بين أيديكم، وطلبوا عقد هدنة معكم، وليس ذلك إلا لأن اللّه سبحانه وتعالى قد أحاط بهم، وأخذ على أيديهم، وأوقع الرعب منكم في قلوبهم.
قوله تعالى: {وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً}.
أي أنكم أيها المؤمنون لا تقاتلون عدوكم بكثرتكم، ولكن تقاتلونهم بإيمانكم باللّه، وتوكلكم عليه، وإخلاص نيتكم له، وهذا هو ضمان النصر لكم من ربكم.
ولو أن هؤلاء المشركين- وهم في عددهم، وشوكتهم، وفى بلدهم وبين أهليهم- لو أن هؤلاء المشركين، قاتلوكم يوم الحديبية، لنصركم اللّه عليهم، ولولّوا الأدبار منهزمين، ثم لا يكون لهم ولىّ يقوم لهم، ولا ناصر يفزع لنصرهم.
وهذا حكم مطلق على ما سيكون بين المسلمين والمشركين، منذ نزول هذه الآية.. فإن أي لقاء سيلتقى فيه المسلمون بالمشركين، لن يكون للمشركين فيه إلا الهزيمة، التي لا يقيلهم منها ولىّ ولا نصير.
وقد تحقق هذا، فلم يكن بين المسلمين والمشركين بعد الحديبية حرب، وإنما كان من المشركين استسلام، وإسلام، في يوم الفتح.
قوله تعالى: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا}.
{سنة} منصوب بفعل محذوف، وتقديره، لقد سنّ اللّه سبحانه وتعالى بهؤلاء المشركين سنة اللّه التي قد خلت من قبل، وهى سنة اللّه فيما بين أولياء اللّه وأولياء الشيطان، بين أهل الحق، وأهل الباطل.. وسنة اللّه: هى حكمه، وقضاؤه.
وحكم اللّه وقضاؤه، هو نصرة الحق وخذلان الباطل، كما يقول سبحانه:
{بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ، فَإِذا هُوَ زاهِقٌ} ويقول تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي.. إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ..} [21: المجادلة] قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً}.
يجمع المفسرون على أن ما تشير إليه الآية من كفّ أيدى المشركين عن المؤمنين، وكف أيدى المؤمنين عن المشركين- إنما هو عن صلح الحديبية.
ولكن قوله تعالى: {بِبَطْنِ مَكَّةَ} يردّ هذا القول.. فالمؤمنون لم يدخلوا مكة عام الحديبية، بل ولم يظفروا بالمشركين الظفر الذي يمكّن لهم منهم.
والذي نراه- واللّه أعلم- أن هذا إنما كان يوم الفتح، حيث دخل النبي- صلى اللّه عليه وسلم- مكة، على رأس جيش من عشرة آلاف مقاتل، وأن قريشا قد فزعت لهذا، واستسلمت من غير قتال، طالبة الأمان من رسول اللّه، بعد أن مكن اللّه له من رقابهم، فقال لهم صلوات اللّه وسلامه عليه قولته الخالدة: «ما تظنون أنى فاعل بكم؟» إنهم الآن بين يديه، وفى متناول سيوف المسلمين، وإن النبي قد ملكهم ملكا مطلقا، يتصرف فيهم كيف يشاء.
ولم يجد القوم جوابا يجيبون به على هذا التحدّى، الذي يستئير الحمية، ولكن لم يكن للقوم بعد مارأوا من جيش المسلمين- لم يكن عندهم بقية من حمية تستثار، فكان جوابهم للنبى، هذا الجواب الذليل المستسلم: «أخ كريم! وابن أخ كريم!!».
ألا لقد ذلّت جباه المتكبرين، ورغمت أنوف المتعالين!! وقد كان رد النبىّ الكريم، سمحا كريما، كما هو شأنه في جميع أحواله فقال صلوات اللّه وسلامه عليه: «أذهبوا فأنتم الطلقاء»!! لقد أطلقهم بتلك الكلمة الطيبة الكريمة من الأسر، وحفظ عليهم دماءهم التي كانت مهدرة! ولا يعترض على هذا الرأى الذي ذهبنا إليه، بأن الآية تحدّث عن أمر وقع فعلا، وذلك في قوله تعالى: {كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ..} بلفظ الماضي.
والجواب على هذا من وجهين:
أولهما: أن الإخبار عن المستقبل بالفعل الماضي، إشارة إلى تحققه، وأنه إن لم يكن قد وقع، فهو واقع لا شك فيه.
وثانيهما: أنه قد تكون هذه الآية نزلت بعد فتح مكة، ثم أخذت مكانها من السورة، لتكون إلى جانب أحداث الحديبية التي تلقّى فيها الرسول الكريم قوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً}.
فهذا الفتح يطوى في كيانه فتح مكة، وإن كان فتحها لم يقع بعد.
قوله تعالى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً}.
هو بيان للسبب الذي من أجله أخذ سبحانه المشركين بالخزي والخذلان، وسنّ بهم سنته- سبحانه- في الذين خلوا من قبل.. ذلك لأنهم كفروا باللّه ورسوله، وصدّوا النبي والمسلمين عن المسجد الحرام، ومنعوا الهدى أن يبلغ محلّه من البيت العتيق.
والخطاب للنبى صلوات اللّه وسلامه عليه، وللمؤمنين معه، الذين واجههم المشركون يوم الفتح.
وفى هذا إلفات للنبى وأصحابه إلى حالهم التي كانوا عليها يوم الحديبية وإلى حالهم اليوم من القوّة، والتمكن من قريش، وأن سيف الباطل الذي كانت تضرب به قريش في وجوه المسلمين، وتلجئهم إلى الفرار من ديارهم- هذا السيف قد تحطم على صخرة الحق، وخذل أهله في الموقف الحاسم، في ساعة العسرة.
لقد استدار الزمن، وأصبح الضعفاء الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا اللّه- أصبحوا أصحاب هذا البلد الذي أخرجوا منه، وصار إلى أيديهم أن يخرجوا أو يقتلوا أولئك الظالمين الضالين الذين أخرجوهم بالأمس من ديارهم.
هذا بعض ما وقع في مشاعر كل من المسلمين والمشركين من تلك المواجهة التي كانت بينهما يوم الفتح، كلّ منهما يراجع مسيرة الأحداث التي جرت بينهما، حتى إذا انتهوا إلى يوم الفتح هذا وجدوا مفارقات بعيدة بين بدء الأحداث ونهايتها، حيث انقلبت الموازين، وتبدلت الأوضاع، وأصبح الذين كانوا لا يملكون شيئا، يملكون كل شىء، وصار الذين كانوا يملكون كل شيء لا يملكون شيئا.. و{إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ}.
قوله تعالى: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً} هو معطوف على ضمير النصب في قوله تعالى: {وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ} أي وصدوكم وأنتم محرمون عن أن أن تطوفوا بالبيت الحرام، وصدوا الهدى وهو معكوف عن أن يبلغ محله.
والهدى، ما يهدى للبيت الحرام من بهيمة الأنعام.
والمعكوف: أي المحبوس على هذه الغاية، والموقوف عليها، فلا يتصرف فيه ببيع ولا بغيره.
قوله تعالى: {وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ}.
جواب لو لا محذوف، دل عليه المقام، وهو مقام تهديد للمشركين، وتذكير لهم، بجناياتهم الشنيعة على الدعوة الإسلامية، وعلى المسلمين.
والتقدير: لو لا هؤلاء الرجال المؤمنون والنساء المؤمنات الذين يعيشون مع هؤلاء المشركين ولم يعلنوا إيمانهم، وأنهم قد يؤخذون بما يؤخذ به المشركون لو وقعت الحرب بينهم وبين المسلمين- لو لا هذا لسلطكم اللّه عليهم يوم الفتح، وهم تحت أيديكم، ولذهبت سيوفكم بكثير من تلك الرءوس التي كانت تكيد للإسلام وتسوق الأذى والضر إلى أهله.
وقوله تعالى: {لَمْ تَعْلَمُوهُمْ} هو صفة للمؤمنين والمؤمنات، أي أن هؤلاء الرجال المؤمنين والنساء المؤمنات، كانوا يسرّون إيمانهم، ويمسكون به في قلوبهم.. خوفا من أهلهم المشركين- فهم في نظر المؤمنين مشركون، يؤخذون بما يؤخذ به المشركون، لأنهم لا يعلمون عن إيمانهم شيئا.
وقوله تعالى: {فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ}.
المعرّة: المذمة، والعائبة التي تعيب الإنسان وتنقصه.
وفى إسناد المعرة إلى هؤلاء المؤمنين والمؤمنات الذين يسرون إيمانهم، في قوله تعالى: {فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ} في هذا إشارة إلى أن الذي يتوجه إلى المسلمين باللوم والعيب هم أولئك المؤمنون والمؤمنات أنفسهم، لأنهم هم الذين يعلمون أنهم مؤمنون، وأنهم قتلوا بيد إخوانهم المؤمنين، الذين خفى عليهم إيمانهم.
وقوله تعالى: {لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ} هو تعليل لمفهوم المخالفة من جواب الشرط المحذوف، أي لو لا رجال مؤمنون، ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم، فتصيبكم منهم معرة بغير علم- لو لا هذا لسلطكم اللّه على المشركين، ولكنه سبحانه لم يسلطكم عليهم، ليدفع عنكم المعرّة، بما تصيبون من المؤمنين والمؤمنات، وليدخل في رحمته من يشاء.. فإن للّه سبحانه في هؤلاء المشركين من يريدهم لدينه، ويدخلهم في رحمته، ولهذا مدّ لهم في الأجل، ودفع عنهم أيدى المسلمين من أن تقضى عليهم، وذلك ليقضى اللّه أمرا كان مفعولا، وليدخل في رحمته من يشاء من هؤلاء المشركين.
وقوله تعالى: {لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً} أي لو انفصل هؤلاء المؤمنون والمؤمنات الذين أرادهم اللّه للإيمان- لو انفصل هؤلاء وهؤلاء عن كيان المشركين، الذين لن يؤمنوا باللّه أبدا، لو انفصلوا عنهم لعذاب اللّه سبحانه الذين كفروا منهم عذابا أليما، بأن يسلطكم عليهم أو يرسل عليهم عذابا من عنده، ولكن اللّه سبحانه- حماية للمؤمنين والمؤمنات ودفعا لما يلحقهم من مكروه إذا نزل العذاب بهؤلاء المشركين الذين يخالطونهم ويمتزجون بهم- لم ينزل عذابه في الدنيا بهؤلاء المشركين الذين لن يؤمنوا أبدا، وأنظرهم إلى يوم الدين.
وهكذا أكرم اللّه المؤمنين، فلم يفجعهم في أهليهم من المشركين، ولم يرهم ما يسوءهم فيهم، وهكذا يصنع اللّه لأوليائه.
قوله تعالى: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً}.
الحمية الغيرة، والأنفة، وهى التي تحتمى بها الحرمات.. وهى محمودة إذا كانت في جانب الحق، والعدل والإحسان، ومذمومة إذا كانت في جانب الهوى والسّفه، والضلال.
وحمية الجاهلية، حمية استعلاء، وتطاول بغير حق، لا يضبطها عقل، ولا تسوسها حكمة.
أي أنه على حين امتلأت قلوب المشركين الذين كفروا من حمية الجاهلية، وغذّوها بهذه المشاعر الكاذبة الفاسدة، بما كان لهم من قوة ظاهرة على المسلمين- فإن اللّه سبحانه وتعالى حين منح المسلمين القوة، ومكن لهم من هؤلاء الكافرين، حرس هذه القوة من أن تكون أداة بغى وعدوان، فأنزل السكينة على رسوله وعلى المؤمنين، ونزع ما في قلوبهم من حفيظة على المشركين وألزمهم كلمة التقوى، وهى الكلمة التي عفا الرسول صلوات اللّه وسلامه عليه بها عن المشركين، حين قال لهم: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» فهذه الكلمة التي لا يقولها في هذا المقام إلا رسول اللّه، وهو أحق بها وأهلها من دون الناس جميعا، والمؤمنون هم على هذا المورد الطيب الذي ورده الرسول، فهم بهديه مهتدون، وعلى سنته قائمون.


{لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (27) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (28) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (29)}.
التفسير:
قوله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً}.
هو ردّ من اللّه سبحانه وتعالى على ما وقع في نفوس بعض المسلمين من مشاعر القلق، والضيق، والاتهام، لما فاتهم من دخول المسجد الحرام يوم الحديبية، وقد جاءوا إليه وهم على يقين بأنهم داخلوه، تصديقا للرؤيا التي رآها النبىّ وأخبرهم بها.
فقوله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ} تصديق لرؤيا الرسول الكريم، وأنها رؤيا من اللّه، وأنها الصدق المطلق، والواقع المحقق، وإن كان تأويلها لم يجىء بعد.
وقوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} هو جواب لقسم محذوف، وهذا القسم هو لتأكيد هذا الخبر الذي يخبر اللّه سبحانه وتعالى به المؤمنين، وأنهم داخلون المسجد الحرام إن شاء اللّه آمنين، لا تعترضهم قريش، ولا يقع منها ما يسوؤهم، وأنهم سيقضون عمرتهم، ويحلّقون ويقصرون، إيذانا بالحلّ من العمرة وإحرامها.
والتحليق، هو أن يحلق بعضهم لبعض شعورهم.
والتقصير، هو قصّ الشعر.. ولو بضع شعرات منه.
وقوله تعالى: {فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً} أي أن اللّه سبحانه وتعالى لم يقدّر للنبى والمسلمين دخول المسجد الحرام هذا العام، لأمر أراده، وحكمة لا يعلمها إلا هو، فصرف المسلمين عن دخول مكة هذا العام، وجعل بين صرفهم عنها، ودخولهم إياها الذي وعدوا به- جعل بين هذا الوقت وذلك، فتحا قريبا، هو فتح خيبر.
فكان للمسلمين من ذلك فتحان: فتح قريب، هو فتح خيبر، وفتح يأتى بعده، هو فتح مكة.
قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً} أي الذي جعل من دون ذلك فتحا قريبا، هو اللّه سبحانه، الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، ليكون على يديه تبليغ هذا الدين، الذي سيجعله اللّه فوق كلّ دين.. وهذا وعد من اللّه سبحانه، وكفى باللّه شهيدا على هذا الوعد الذي لن يخلف أبدا.
قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً}.
بهذه الآية الكريمة تختم سورة الفتح.
وبهذا الفتح الذي وعد اللّه المؤمنين تقوم دولة المسلمين، ويأخذ مجتمعهم مكانه في الحياة، ويرى الناس وجه الإسلام في هذا المجتمع.
والصفة التي تغلب على هذا المجتمع، ويعرف بها في الناس، أنه مجتمع شديد الغلظة على الكفار، الذين يحادّون اللّه ورسوله، فلا يكون بينه وبين الكافرين ولاء أو مودة يجار فيها على دين اللّه، أو ينتقص بها حق من حقوق المسلمين.
هذا حالهم مع أعداء اللّه.. أما هم فيما بينهم فهم رحماء، تفيض قلوبهم حفانا ورحمة ومودة، تجمعهم أخوة بارّة في اللّه، وفى دين اللّه.
هذا ما تنطوى عليه صدورهم، وتفيض به مشاعرهم، نحو أعداء اللّه، وأوليائه.
أما ما يراه الناس من ظاهر أمرهم، فهو اجتماعهم في الصلاة، وتولية وجوههم جميعا للّه.. يركعون معا، ويسجدون معا.. يريدون بذلك مرضاة اللّه، ويبتغون فضله وإحسانه.
فإذا لم يرهم الرائي في مقام الصلاة، رأى منهم أثر هذه الصلاة، وما يترك السجود على جباههم من آثار، هى سمة المسلم المصلّى، وهى الشارة التي تشير إليه، وإلى الدين الذي يدين به.
وهذا يعنى أن الصلاة هى شعار المسلم، وأن من لا يؤديها لا نظهر عليه سمة الإسلام، ومن هنا كانت الصلاة الركن الأول الذي يقوم عليه الإسلام بعد الإيمان باللّه.. وفى الحديث: «بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة».
وفى الحديث أيضا: «العهد بيننا وبينكم الصلاة فمن تركها فقد كفر» يريد تركها عامدا منكرا.
وقوله تعالى: {ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ} أي هذه الصفة هى صفة المسلمين التي وصفهم اللّه بها في التوراة.
والإشارة: إما أن تكون إلى جميع هذه الأوصاف، وإما أن تكون إشارة إلى قوله تعالى: {سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ}.
وقوله تعالى: {وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً}.
الشطء: أول ما يبدو من النبات على ظاهر الأرض، وشاطىء الشيء، حافته.. أي ومثل المؤمنين الذين مثّلهم اللّه سبحانه وتعالى به، في الإنجيل، هو الزرع، يبدأ بذرة هامدة في الثرى، فإذا أصابها الماء، اهتز كيانها، ودبّ دبيب الحياة فيها، وأخذت بهذا الرصيد القليل من الحياة التي سرت فيها- أخذت تحاول جاهدة أن تصافح النور، وأن تلتمس لها طريقا إليه، من بين هذا الظلام المطبق عليها، ثم سرعان ما يطلع لها لسان تتحسس به الطريق إلى النور، وتتذوق به نسمة الحياة، وإذ شيء أخضر صغير، لا يكاد يرى، يطل على الحياة في استحياء ثم لا يلبث أن يؤازره آخر مثله، ثم ثالث ورابع.
وهذا هو الشط، وجمعه شطآن.
وشيئا فشيئا تنمو هذه الشطآن، وتعلو، وبتخلّق لها ساق تقوم عليه، وأوراق تكسو هذا الساق، وفروع وأغصان، وأزهار وثمار، حتى يكون من ذلك نخلة باسقة، أو دوحة عظيمة!.
وهكذا المسلمون، بدءوا بذورا كهذه البذور التي طال حبسها عن الأرض، حتى إذا امتدت إليها يد الزارع فغرسها في الأرض، وساق إليها الماء، وتعهدها بالرعاية والري، طالت، وانداحت، وأزهرت، وأثمرت، وملأت وجه الأرض المغبرّة، حسنا، وجمالا، وخيرا.
وشبه المسلمون بالزرع لأنهم كثير، ولأن كل واحد منهم له ذاتيته إلى جانب هذه الشجيرات الكبيرة التي يضمها الحقل.
وقوله تعالى: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} هو إشارة إلى هذا الزرع الطيب، الذي يملأ العين سرورا ورضا، وهو في الوقت نفسه يملأ قلوب الكافرين حسرة وحسدا.
وقوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} إشارة إلى أن وصف المؤمنين لا يتم إلا بالعمل الصالح وأن الذين لهم المغفرة والأجر العظيم من اللّه، هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، لا المؤمنون على إطلاقهم.. وهذا هو السر في قوله تعالى: {مِنْهُمْ} الذي يعزل الذين آمنوا وعملوا الصالحات، عن الذين آمنوا ولم يعملوا الصالحات.. فهؤلاء غير أولئك.
{هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ}.

1 | 2